سيكولوجيّة صاحب السيادة | قصّة

لوكاس كراناش | الحُكم الأخير

 

الآن، بعد ساعاتٍ خمس من طلوع شمس نهاية الزمان من مغربها، ودنوّ الوجود من قيامته الكبرى، يمكن القول إنّ تشوّشًا بدأ يعتَوِر التدفّق الخلّاق لأفكار صاحب السيادة. فها هو يتبادر إلى انتباهه أنّ إسرافيل قد ينفخ في الصور قبل حصوله على ردّ بشأن مطالبه المرفوعة إلى الجانب الآخر، فيأخذه القلق.

تبدو الشمس المشرقة من النافذة الغربيّة لمكتب سيادته قرصًا دمويًّا مُسنًّا، يدبغ الفضاء بلونه، ويثير هلعًا  لشدّة قربه. ويمكن الرجل استشعار الهبّات الساخنة لرياح آخر الزمان، القادمة عبر النافذة، تلفح وجهه أثناء انتظاره لأيّ إخطار متعلّق بمطالبه. ينضح جسده عرقًا فيدبق ويلتصق بملابسه، بالتزامن مع شكّه في أن يكون لانتظاره نهاية قريبة.

التدافع البشريّ المذعور في الشارع المحاذي لمكتب سيادته، كما في سائر أنحاء العالم، يثير هستيريا لا سابق لها؛ فهذه ساعات لم ولن تتكرّر على سطح البسيطة. القيامة تفحّ أنفاسها من معارج السماء، وصحائفُ أعمالهم الّتي تتراءى لهم من وراء حجابٍ تفوّر في البشر هلعًا ناريًّا. 

عن بكرة أبيها، تبثّ محطّات التلفزة العالميّة الشواهد الأولى لانهيار قوانين المادّة الفيزيائيّة، وبزوغ طبيعة مغايرة لما مضى. أثناء متابعته هذه الشواهد عبر الشاشات من مكتبه، يدرك صاحب السيادة أنّ إمكانيّة تحقيق سلام عادل وشامل - وفق قوانين المادّة الّتي نألفها - بدأت تتقلّص، فيضطرّه هذا إلى التأمّل مليًّا في مستقبل العلاقات بالجانب الآخر.

لغاية ممارسة هذا التأمّل المثمر؛ يباشر الرجل تمارين الاسترخاء وتصفية الذهن. وبرغم الضجّة المحيطة، ينجح في فعل هذا، وبمهارة! بمعنى أنّ استرخاءه ليس بالشديد؛ لينتهي به غاطًّا في النوم، ولا هو بالخفيف، ليقطعه الصياح المجنون في الخارج. أمّا في سبيل تصفية ذهنه، فتحملق عيناه الناعستان في إناء الزهور الآخذة بالذبول على الطاولة. يحاول التركيز في ما يرى، فيشرد ذهنه إلى ما وزّعه الخالق من جمال ورقّة في مملكة النبات. تلوح له ذكريات لأوقات آفلة قضاها في الجنائن، ويوشك على عبّ عطر الورد في رئتيه لاجتهاده في تمثّل الذكريات المارقة.

دقائق، ويلفي ذهنه مستغرقًا في صفاء مبهر، وكأنّ تركيزه في لطافة الزهور أخذ بيده إلى دوحة من الطمأنينة متوارية خلف وعيه. لقد تمرّن سابقًا على تقنيّة الاسترخاء هذه؛ تحسّبًا للحوادث المقلقة، وها هو الآن؛ إذ تحين ساعة اختبار براعته فيها، يتفوّق بشكل لافت.

في الدوحة العبقريّة من نفسه، وعندما يصفو لسيادته تأمّل مستقبل العلاقات بالجانب الآخر، تتكشّف لذاته الباطنة معضلة مفزعة لطالما حاول وعيه تجاهلها؛ هي أنّ إنقاذ الاتّفاقيّات الموقّعة مع الجانب الآخر يقع دومًا على عاتقه وحده. ورغم ما تثيره هذه المعضلة من فزع يُعرّض ذهنه لمغبّة اليقظة، تُبدع حنكته في التروّي واستغلال فرصة التأمّل المواتية لتحليل تداعيات المعضلة.

لإلحاح مقدّمات قيام الساعة خارج مكتبه، وإلى حين استكماله لتأمّلاته الّتي تتمحور في هذه اللحظات حول موقف المجتمع الدوليّ من تدهور العلاقة بالجانب الآخر، نضطرّ إلى الانسحاب من دوحة سيادته هنيهات؛ لنقل صورة ما يجري في الأثناء على باقي الكوكب ...

منذ دقائق، تُباغتنا انفجارات عظمى في كبرى السلاسل الجبليّة، بعد أن بدأت حمم باطن الأرض تنقر قشرتها لتندفع في نوافير عملاقة. أمّا الصهارة الزاحفة من الفوّهات البركانيّة عبر السفوح، فتذيب في طريقها معالم البراري، وتقترب من العمار البشريّ، وسط هياج الأحياء وتشرّدهم بلا وعي أو بوصلة. الخطوط السلكيّة واللاسلكيّة في غلاف الكوكب تتقطّع بتسارع، فتنقطع سبل التواصل والاتّصال كافّة. 

بالتزامن، يتناهى إلى سمع صاحب السيادة من خلف معترش دوحته طَرق بعيد حادّ، مماثل لطَرق الصواعق الجوّيّة؛ طَرق ينطوي على رهبة لاسعة، توحي ببدء العدّ التنازليّ لانهيار كونيّ وشيك. على إثره، تساور الرجل خشية انقضاء النزع الأخير للوجود، بمعضلاته كافّة، عبر آليّة هوجاء لا تعقّل فيها، بينما هو قاب قوسين من الخروج بآليّة أكثر حنكة لإنهاء الاتّفاقيّات الموقّعة مع الجانب الآخر. مصير العلاقة بالجانب الآخر لم يكن يومًا على المحكّ مثلما هو الآن. لذا؛ يقرّر سيادته المجازفة والاسترسال في استرخائه إلى حين قطف ثمار تأمّلاته، عوضًا عن الانسحاب المحفوف بخطورة فقدانها إلى الأبد.

على حين غفلة، ومن آخر دنيا الله، يطغى على الضوضاء هديرُ بوقٍ متّصل في نفخة طويلة، بل طويلة جدًّا. يتسارع ارتفاع صوت البوق، متلمّسًا طريقه إلى أسماع الكائنات، فتسقط جمعاء في هوّة الموت الكبرى، حتّى يُقفر الوجود من طعم الحياة، ولا يتبقّى سوى وجه الخالق، وإسرافيل حامل البوق.

 

***

 

لا دبيب لذي قدم، لا حفيف لذي جناح. هذا هو الموت الكبير، هذا هو الموت العميق. يتوحّش في أنسجة المادّة فيوشك على إذابتها في العدم، لولا أن ...

يرتفع صوت البوق إذ ينفخ فيه إسرافيل النفخة الثانية، فتُبعث الكائنات عائدةً إلى الحياة عودة متخبّطة. ما مضى من كوارث الطبيعة لم يكن سوى فاتحة لما هو آت ... 

يشهق سيادته إذ يُبعث من مماته. في تقصٍّ مباشر حوله، يلاحظ أضواء تبرق وتخبو في الفضاء، وتنعكس على جدران مكتبه. من الخارج، تصمّ مسمعَه جلبةُ الهرج والمرج، نداءات الأنين والنواح وترجّيات العفو والمغفرة.

يضبط جلوسه وأعصابه قدر الإمكان. رجُلنا، الّذي لم يعتد سوى إكمال ما بدأه، يحاول تذكُّر آخر تأمّلاته في الحياة الدنيا. من جديد، ورغم المنغّصات المحيطة، تُفلح محاولته بجدارة؛ إذ يتذكّر أنّها كانت تدور حول انعكاس العلاقة المتوتّرة بالجانب الآخر على الانتخابات المقبلة. 

تستفزّه الانعكاسات المتكرّرة للأضواء الغريبة؛ فيتقدّم صوب النافذة مستكشفًا؛ ليجدها مطلّة على حارة من الجحيم. الأضواء ليست سوى سعير النجوم الآخذة بالاقتراب؛ لتجاور شمسنا الآخذة بالتكوّر. أمّا على الأرض فموسم هجرة كلّيّ وأبديّ للخلائق المترنّحة المتدافعة.

يقشعرّ بدن صاحب السيادة، فمجريات اليوم الآخر حتّى الآن تفوق توقّعاته. يقرّر أنّ هذا توتّر غير مسبوق على الصعيدين المحلّيّ والعالميّ، وفي الغالب أيضًا، على صعيد الجانب الآخر. يحملق في الوجوه المصفرّة والعيون المتقلّبة. ولا يملك سوى أن يخطف بصره، بشكل خاصّ، أولئك العراة الذاهلون اللاطمون خدودهم بالطين، الّذين تقذف الأرض بالآلاف منهم، ليهيموا مع الهائمين. "اللعنة! إنّهم موتى الدهور الماضية!" يصيح سيادته، بينما يتبدّى له ما ليس في الحسبان. 

كما كابوس يتنبّأ بالهزيمة، يمكنه أن يطيح بمعنويّات مغوار في ساحة منازلة ... يجثم تشاؤم صاحب السيادة بين عينيه، فتضعف حشاشة قلبه وترتعش عظامه. وبينما لا يزال مذعورًا يحدّق بأولئك العراة الذاهلين اللاطمين خدودهم بالطين، وهم يتكاثرون من غير كوابح، تخور آماله إلى الأبد؛ إذ بات متأكّدًا، الآن، أن ما من سبيل بعد اليوم إلى التمييز بين الموتى القدامى والموتى الجدد في سجلّات الناخبين. وهذه وحدها، مَجلَبة للنحس كلّه. 

 

ميس داغر

 

 

كاتبة قصّة قصيرة تقيم في بير زيت. لها مجموعتان قصّصيّتان، «الأسياد يحبّون العسل» (مركز أوغاريت للنشر، 2013) و«معطف السيّدة» (الأهليّة للنشر والتوزيع، 2017)، ورواية لليافعين «إجازة اضطّراريّة» (الأهليّة للنشر والتوزيع، 2016). حاصلة على جائزة الكاتب الشابّ من «مؤسّسة عبد المحسن القطّان» لعام 2015.